Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
عربي ودولي
أخر الأخبار

نظرة على محاولات إعلام التطبيع العربي تخفيف وطأة العدوان الإسرائيلي على غزة

أن ينحاز الإعلام الغربي بمختلف تلاوينه في تغطيته للعدوان على غزة إلى جانب إسرائيل، فذلك ربما لن يفاجئ أي عربيّ أو مسلم يتابع الأحداث في فلسطين المحتلة.
لكن أن يحاول بعض وسائل الإعلام العربية في تغطيته تقليدَ الإعلام الغربي في مصطلحاته ومساواته بين الجلّاد والضحية واستعمال مفردات غربية على الجمهور العربي من قبيل “قتلى فلسطينيون في غزة” بدل “شهداء”، أو “الجيش الإسرائيلي” عوض “جيش الاحتلال”، أو “وقف إطلاق النار بين فلسطين وإسرائيل”، فذلك هو الجديد الذي يستحقّ التوقّف عنده.

إن استعمال تلك الأوصاف من قبل المحررين في غرف الأخبار ببعض وسائل الإعلام العربية ليس عرضياً أو على سبيل البحث عن الحياد، بل يعبّر عن سياسة ومواقف بلدان عربية انخرطت في مسلسل التطبيع. وتسعى تلك الدول من خلال أذرعها الإعلامية لجعل إسرائيل مقبولة بين الشعوب العربية ونزع القدسية الدينية والقومية عن القضية الفلسطينية وتقديمها للمشاهد كأي نزاع آخر في العالم. أين يتم استبدال “القتلى”، بـ”الشهداء”، وهي المفردة ذات الرمزية الكبيرة لدى المسلمين؟ وتمثل المصطلحات المُحرَّفة استراتيجية للبلدان التي تموّل تلك المحطات، وبالتالي فإن توظيفها ليس اعتباطياً، فهي تهدف إلى التشكيك في الإجماع الموجود أصلاً لدى المسلمين والعرب حول قدسية وقداسة القضية الفلسطينية. فبعد فترة من تَعوُّد جمهور المتلقين سماع تلك التعابير، يبدأ اللا وعي في التساؤل وتفكيك المفاهيم والقضايا التي كانت مسألة مبدأ.

ويرتبط الإعلام ارتباطاً وثيقاً باللغة، فكل شيء يبدأ من اللغة: تبرير الحروب، صناعة الأعداء والأصدقاء، تحضير الشعوب لقرارات حاسمة، إلخ. ومن خلال توظيف اللغة في الإعلام نكتشف دون عناء موقف الأطراف من القضايا المختلفة. ومن الأمثلة الأكثر شيوعاً عبر التاريخ أن يتم توظيف مفاهيم سامية مثل الحرية والديمقراطية والسلام والعدالة والدفاع عن النفس، لتقبُّل الجمهور ما هو قادم. وتكون مهمّة الإعلام هنا هي تضليل المُتلقّين بعبارات مقبولة، وفي الحالة الفلسطينية لجأت وسائل إعلام عربية إلى تصوير العدوان على غزة وتدمير الأبراج السكنية فوق رؤوس ساكنيها على أنه “حرب في غرة” أو “تصعيد إسرائيلي” أو “ردّ على الصواريخ الفلسطينية”. وفي ذلك مقارنة مجحفة هدفها مساواة الجلاد بالضحية.

إن توظيف الإعلام لمثل تلك العبارات لأغراض سياسية هو جزء من تقاليد شنّ وتبرير الحروب. فالادّعاء أن إعلان الحرب جاء لمحاربة الإرهاب أو من أجل القيم العالمية أو دفاعاً عن النفس، يمنح الطرف المعتدي الشرعية والغطاء لاستخدام القوة العسكرية بشكل عشوائي، وهي ممارسة تتكرر مراراً وتكراراً عبر التاريخ، إذ تحدّد اللغة تصوراتنا حول القضايا لامتلاكها القدرة على التشكيك في ما كان يعتبره جمهور المتلقين مبدئياً وتغيير وجهات نظره وحتى مواقفه دون شعوره. في مثل هذه الحالات تكون اللغة هي حجر الزاوية لتمرير المواقف، إذ تُوظَّف كأداة فعّالة تساعد على خلق المناخ المناسب، إذ تبدو الحاجة إلى عمل عسكري واضحة أو جعله يبدو مقبولاً ومبرراً بعد توظيف لغة معينة. ويتم اللجوء إلى مصطلحات مختارة بعناية للإشارة إلى إسرائيل أو لوصف ما يجري في فلسطين بهدف تهيئة الأرضية في أذهان الجمهور لتفهُّم ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي من عدوان. وكمثال واقعي على ذلك، أكد وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد آل نهيان، أن بلاده تعبّر عن قلقها البالغ إزاء ما أسماه “تصاعد أعمال العنف في إسرائيل وفلسطين”.

ويُعَدّ هذا الوصف المخفَّف والمخالف للإجماع العربي الرسمي والشعبي محاولة لتصوير النزاع كما لو كان يتعلق بدولتين متساويتين في القوة، بدل ذكر الحقيقة بأن الاحتلال الإسرائيلي يستخدم قوته التدميرية لإبادة الشعب الفلسطيني، كما أن الإشارة إلى هذا الكيان بأوصاف “طوباوية” تجعله مقبولاً للمتلقي العربي.

ولن نكشف سرّاً إذا قلنا إن وسائل الإعلام التي سارت على ذلك النهج هي ملك لبلدان عربية طبّعت أو تسير في طريق التطبيع مع إسرائيل. ولا يعدو التطبيع كونه مجرد وعود وردية للعرب بقطف ثمار التعاون الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي والزراعي والسياحي مع إسرائيل. لكن واقع حال البلدان التي طبّعت مع إسرائيل يُغنِي عن السؤال، فما الذي جنته دول التطبيع بعد 40 سنة من انطلاق قطاره؟

كانت مصر أول بلد يشقّ الإجماع العربي ويطبّع مع إسرائيل سنة 1979. ولم تجنِ القاهرة الرخاء الموعود، إذ لا تشكّل السياحة ولا الاستثمار ولا التعاون الاقتصادي ولا التبادل التجاري أو العلمي بين البلدين أرقاماً تُذكَر في الاقتصاد المصري، بل والأكثر من ذلك أن الشكوك بدأت تحوم حول دور مزعوم لإسرائيل في بناء سدّ النهضة الإثيوبي والتآمر على الشعب المصري. ورغم تطوُّر إسرائيل في المجالات التكنولوجية وتحلية مياه البحر والزراعة، فإنها لم ترَ يوماً أن مصر تستحقّ مشاركتها معها. وبعد مصر، وقّع الأردن سنة 1994 اتفاقية وادي عربة بهدف الحفاظ على أمنه المائي، ونصّت الاتفاقية على حقّ إسرائيل في ضخ 25 مليون متر مكعب من مياه نهر اليرموك، فيما يحصل الأردن على الكمية المتبقية دون تحديدها. وحرمت الاتفاقية عمّان من حصتها من نهر الأردن، ليقتصر نصيبها من المياه على الروافد فقط، التي تجمع ما مقداره 175 مليون متر مكعب سنوياً، فيما ضمنت لإسرائيل تدفق ما يُقدَّر بـ750 مليون متر مكعب سنوياً، ناهيك بالمؤامرات كتلويث المياه القادمة من إسرائيل إلى عمّان سنة 1998، التي أدّت إلى استقالة حكومة عبد السلام المجالي.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 1999 طبّعت موريتانيا مع إسرائيل، ورغم شساعة الأرض الزراعية الخصبة، لم تستفِد نواكشوط من التكنولوجيا الزراعية الإسرائيلية، بل كانت الصحراء الموريتانية مكاناً لدفن النفايات النووية الإسرائيلية مقابل بضعة ملايين من الدولارات، وفق خبراء. وقد صحّح الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، ذلك الخطأ تماشياً مع رغبة الشارع الموريتاني سنة 2009 في طرده طاقم السفارة الإسرائيلية وإنهاء العلاقات بين البلدين.

وعكس إرادة الشعوب الخليجية، طبّعت كل من الإمارات والبحرين نهاية 2020 في حدث وُصف بـ”اتفاقية السلام”، رغم أن البلدين لم يخوضا في تاريخهما حرباً ضد إسرائيل. وفي ديسمبر الماضي وقّع المغرب على اتفاق التطبيع مع إسرائيل في محاولة للحصول على دعم أمريكي للسيادة على الصحراء الغربية، ومن مفارقات ذلك أن إسرائيل نفسها لم تعترف للرباط بالسيادة على الصحراء الغربية، فيما لا تزال إدارة بايدن تدرس إمكانية إلغاء قرار ترامب القاضي باعتراف الولايات المتحدة للمغرب بالسيادة على الصحراء الغربية.

وتحاول السلطة السودانية الجديدة تسويق التطبيع على أنه حلّ لكل مشكلات البلد المزمنة من خلال رفع العقوبات، ولم تستفِد سوى زيارة وفد أمني إسرائيلي قام بتفتيش المصانع الحربية التابعة للجيش. إن ما لم تمنحه إسرائيل من التكنولوجيا الزراعية والعلمية والمائية والصناعية لمصر أو الأردن أو موريتانيا لن تقدّمه للسودان، والسعيد من اتّعظ بغيره.

كل ذلك يؤكد أن بلدان التطبيع مع إسرائيل، التي خالفت توجهات شعوبها، لم تَجنِ أي فائدة باستثناء زيادة الهوة مع الحُكّام واستفادة إسرائيل من مقدراتها وخيراتها، لتظلّ القضية الفلسطينية بالنسبة إلى العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها قضية مقدسة ومسألة مبدأ.

إن محاولات التغبيش التي تقوم بها قلة من وسائل الإعلام العربية الواقعة تحت تأثير حُمَّى التطبيع لن تغير من واقع الأمر شيئاً، فلقد سعت وسائل الإعلام الغربية لتقديم صورة مختلفة عن طبيعة الصراع في فلسطين، ولقد أثبتت هبَّة القدس وما يجري في عموم فلسطين الآن فشلها في ذلك، كما أن التفاعل الذي حظيت به هذه الانتفاضة من عموم الشعوب العربية والإسلامية يؤكد أن شمس الحق ستظلّ مشرقة، وأن قضية فلسطن ستكون حاضرة إلى أن يعود الحق لأهله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى